فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}
أصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء الإتمام، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه فإن الخائن ينقص المخون شيئًا مما خانه فيه، اعتبر الراغب في الخيانة أن تكون سرًا، والمراد بها هنا عدم العمل بما أمر الله تعالى به ورسوله عليه الصلاة والسلام.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن خيانة الله سبحانه بترك فرائضه والرسول صلى الله عليه وسلم بترك سنته وارتكاب معصيته.
وقيل: المراد النهي عن الخيانة بأن يضمروا خلاف ما يظهرون أو يغلوا في الغنائم.
وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب رضي الله تعالى عنه أن المراد بها الإخلال بالسلاح في المغازي.
وذكر الزهر والكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر هود قرظة إحدى وعشرين ليلة وفي رواية البيهقي خمسًا وعشرين.
فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات من أرض الشام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل لنا أبا لبابة ورفاعة بن عبد المنذر.
وكان مناصحًا لهم لأن ماله وولده وعياله كان عندهم.
فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار بيده إلى حلقه يعني أنه الذبح فلا تفعلوا.
قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموت أو يتوب الله تعالى علي، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره قال: أما لو جاءني لاستغفرت له أما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى توب الله تعالى عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا حتى خر مغشيًا عليه ثم تاب الله تعالى عليه فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك.
فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاءه عله الصلاة والسلام فحله بيده ثم قال أبو لبابة: إن تمام توبتي أن أهجر دار قوم التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي.
فقال صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تصدق به ونزلت فيه هذه الآية وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنهو عن ذلك، وأخرج أبو الشيخ وغيره عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمدًا صلى الله عليه وسلم مريدكم فخذوا حذركم فنزلت: {وَتَخُونُواْ أماناتكم} عطف على المجزوم أولًا والمراد النهي عن خيانة الله تعالى والرسول وخيانة بعضهم بعضًا، والكلام عند بعض على حذف مضاف أي أصحاب أماناتكم، ويجوز أن تجعل الأمانة نفسها مخونة، وجوز أبو البقاء أن يكون الفعل منصوبًا بإضمار أن بعد الواو في جواب النهي كما في قوله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

والمعنى لا تجمعوا بين الخيانتين والأول أولى لأن فيه النهي عن كل واحد على حدته بخلاف هذا فإنه نهى عن الجمع بينهما ولا يلزمه النهي عن كل واحد على حدته، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأمانات بالأعمال التي ائتمن الله تعالى عليها عباده، وقرأ مجاهد {أمانتكم} بالتوحيد وهي رواية عن أبي عمرو ولا منافاة بينها وبين القراءة الأخرى {أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تبعة ذلك ووباله أو أنكم تخونون أو وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح، فالفعل إما متعد له مفعول مقدر بقرينة المقام أو منزل منزلة اللازم، قيل: ولس المراد بذلك التقييد على كل حال. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}
استئناف خطاب للمؤمنين يحذرهم من العصيان الخفي.
بعد أن أمرهم بالطاعة والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حذرهم من أن يظهروا الطاعة والاستجابة في ظاهر أمرهم ويبطنوا المعصية والخلاف في باطنه، ومناسبته لما قبله ظاهرة وإن لم تسبق من المسلمين خيانة وإنما هو تحذير.
وذكر الواحدي في أسباب النزول وروى جمهور المفسرين وأهل السير، عن الزهري والكلبي، وعبد الله بن أبي قتادة، أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري لما حَاصر المسلمون بني قريظة، فسألت بنو قريظة الصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَنزلون على حكم سعد بن مُعاذ» فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لُبابة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أبا لُبابة وكان ولده وعيالُه وماله عندهم، فلما جاءهم قالوا له ما ترى أننزل على حكم سعد، فأشار أبو لُبابة بيده على حَلْقِه: أنّه الذبْح، ثم فطن أنه قد خان الله ورسوله فنزلت فيه هذه الآية، وهذا الخبر لم يثبت في الصحيح، ولكنه اشتهر بين أهل السير والمفسرين، فإذا صح، وهو الأقرب كانت الآية مما نزل بعد زمن طويل من وقت نزول الآيات التي قبلها، المتعلقة باختلاف المسلمين في أمر الأنفال فإن بين الحادثتين نحوًا من ثلاث سنين ويقرب هذا ما أشرنا إليه آنفًا من انتفاء وقوع خيانة لله ورسوله بين المسلمين.
والخَوْن والخيانة: إبطال ونقضُ ما وقع عليه تعاقد من دون إعلان بذلك النقض، قال تعالى: {وإمّا تخافَن من قومٍ خيانةً فانبِذْ إليهم على سواءٍ} [الأنفال: 58] والخيانة ضد الوفاء قال الزمخشري: وأصل معنى الخَون النقصُ، كما أن أصل الوفاء التمام، ثم استعمل الخَون في ضد الوفاء لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه أي واستعمل الوفاء في الإتمام بالعهد، لأن من أنجز بما عاهد عليه فقد أتم عهده فلذلك يقال: أوفى بما عاهد عليه.
فالإيمان والطاعة لله ورسوله عهد بين المؤمن وبين الله ورَسوله، فكما حُذروا من المعصية العلنية حذروا من المعصية الخفية.
وتشمل الخيانة كل معصية خفية، فهي داخلة في {لا تخونوا}، لأن الفعل في سياق النهي يعم، فكل معصية خفية فهي مراد من هذا النهي، فتشمل الغلول الذي حاموا حوله في قضية الأنفال، لأنهم لما سأل بعضهم النفل وكانوا قد خرجوا يتتبعون آثار القتلى ليتنفلوا منهم، تعين تحذيرهم من الغلول، فذلك مناسبة وقع هذه الآية من هذه الآيات سواء صح ما حكي في سبب النزول أم كانت متصلة النزول بقريناتها.
وفعل الخيانة أصله أن يتعدى إلى مفعول واحد وهو المخون، وقد يعدى تعدية ثانية إلى ما وقع نقضه، يقال: خان فلانًا أمانتَه أو عهدَه، وأصله أنه نصب على نزع الخافض، أي خانه في عهده أو في أمانته، فاقتصر في هذه الآية على المخوف ابتداء، واقتصر على المخون فيه في قوله: {وتخونوا أماناتكم} أي في أماناتكم أي وتخونوا الناس في أماناتكم.
والنهي عن خيانة الأمانة هنا: إن كانت الآية نازلة في قضية أبي لبابة: إن ما صدر منه من إشارة إلى ما في تحكيم سعد بن معاذ مِن الضر عليهم يعتبر خيانة لمن بعثه مستفسرًا، لأن حقه أن لا يشير عليهم بشيء، إذ هو مبعوث وليس بمستشار.
وإن كانت الآية نزلت مع قريناتها فنهي المسلمين عن خيانة الأمانة استطراد لاستكمال النهي عن أنواع الخيانة، وقد عدل عن ذكر المفعول الأصلي، إلى ذكر المفعول المتْسَع فيه، لِقصد تِبشيع الخيانة بأنها نقض للأمانة، فإن الأمانة وصف محمود مشهور بالحسن بين الناس، فما يكون نقضًا له يكون قبيحًا فظيعًا، ولأجل هذا لم يقل: وتخونوا الناسَ في أماناتهم فهذا حذف من الإيجاز.
والأمانة اسم لما يحفظه المرء عند غيره مشتقة من الأمن؛ لأنه يأمنه من أن يضيعها، والأمين الذي يحفظ حقوق من يواليه، وإنما أضيفت الأمانات إلى المخاطبين مبالغة في تفظيع الخيانة، بأنها نقض لأمانة منسوبة إلى ناقضها، بمنزلة قوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] دون: ولا تقتلوا النفس.
وللأمانة شأن عظيم في استقامة أحوال المسلمين، ما ثبتوا عليها وتخلقوا بها، وهي دليل نزاهة النفس واعتدال أعمالها، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إضاعتها والتهاون بها، وأشار إلى أن في إضاعتها انحلال أمر المسلمين، ففي صحيح البخاري عن حذيفة بن اليَمَان قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلتْ على جَذْر قلوب الرجال ثم عَلمِوا من القرآن ثم علَموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال: ينام الرجل النومة فَتُقبض من قلبه فيظل أثرها مثل الوكْت، ثم ينام النّومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المَجْل كجَمْر دَحُرَجْتَه على رِجْلِك فَنفِط فتراه مُنْتَبِرًا وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلًا أمينًا، ويقال للرجل ما أعْقَلَه وما أظْرَفَه ومَا أجْلَدَه، وما في قلبه مثقال حَبّهِ خَرْدَل من إيمان.
(الوكت سواد يكون في البُسْر إذا قارب أن يصير رُطَبًا، والمَجْل غِلَظ الجلد من أثر العمل والخدمة، ونَفِط تَقَرَّح ومُنْتَبِرًا منتفخًا)، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان إذ قال في آخر الأخبار عنها وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وحسبك من رفع شأن الأمانة: أن كان صاحبها حقيقًا بولاية أمر المسلمين لأن ولاية أمر المسلمين، أمانة لهم ونصح، ولذلك قال عمر بن الخطاب حين أوصى بأن يكون الأمر شورى بين ستة ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حيًا لعهدت إليه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له إنه أمين هذه الأمة.
وقوله: {وتخونوا} عطف على قوله: {لا تخونوا} فهو في حَيز النهي، والتقدير: ولا تخونوا أماناتكم، وإنما أعيد فعل {تخونوا} ولم يُكتف بحرف العَطف، الصالح للنيابة عن العامل في المعطوف، للتنبيه على نوع آخر من الخيانة فإن خيانتهم الله ورسوله نقضُ الوفاءِ لهما بالطاعة والامتثال، وخيانة الأمانة نقض الوفاء بأداء ما ائتمنوا عليه.
وجملة {وأنتم تعلمون} في موضع الحال من ضمير {تَخونوا} الأول والثاني، وهي حال كاشفة والمقصود منها تشديد النهي، أو تشنيع المنهي عنه لأن النهي عن القبيح في حال معرفة المنهي أنه قبيح يكون أشد، ولأن القبيح في حال علم فاعله بقبحه يكون أشنَعَ، فالحال هنا بمنزلة الصفة الكاشفة في قوله تعالى: {ومَن يَدْعُ مع الله إلهًا آخر لا بُرهان له به فإنما حِسابُه عند ربه} [المؤمنون: 117] وقوله: {فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون} [البقرة: 22] وليس المراد تقييد النهي عن الخيانة بحالة العلم بها، لأن ذلك قليل الجدوى، فإن كل تكليف مشروط بالعلم وكون الخيانة قبيحة أمر معلوم.
ولك أن تجعل فعل {تَعْلمون} منزلًا منزلة اللازم، فلا يُقدّر له مفعول، فيكون معناه وأنتم ذَوُو عِلم أي معرفة حقائق الأشياء، أي وأنتم عُلماء لا تجهلون الفرق بين المَحاسن والقبائح، فيكون كقوله: {فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون} في سورة البقرة [22].
ولك أن تقدر له هنا مفعولًا دل عليه قوله: {وتخونوا أماناتكم} أي وأنتم تعلمون خيانة الأمانة أي تعلمون قبحها فإن المسلمين قد تقرر عندهم في آداب دينهم تقبيح الخيانة، بل هو أمر معلوم للناس حتى في الجاهلية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}
والخيانة مقابلها الأمانة، والأمانة هي الشيء يستودعه واحد عند آخر بدون وثيقة عليه، ولا شهود. بل الأمر متروك إلى من عنده الأمانة، إن شاء أقر بها وإن شاء أنكرها؛ لأن الأمانة ليس عليها صك ولا عليها شهود. ولا عليها كمبيالة، وغير محكومة بأي شيء إلا بذمة من ائْتُمن، والحق سبحانه تعالى يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
وكل الأجناس التي في الوجود ودون الإنسان من حيوان ونبات وجماد، كلها مُسخرة، ولا تملك الاختيار في أن تفعل أو لا تفعل. الشمس ليس لها اختيار في أن تقول: سأشرق اليوم على هؤلاء الناس، أو لن أشرق اليوم. والهواء لا يملك إرادة الاختيار، كل الكائنات التي أوجدها الله في هذا الوجود ما عدا الإنسان مسخرة للمؤمن وللكافر. ورفضت هذه الكائنات أن تحمل أمانة الاختيار، لكن الإنسان قال: أنا لي عقل يختار بين البديلات وأقبل تحمل الأمانة وسوف أؤدي كل مطلوبات الأمانة لأني أقدر على الاختيار.